فيلم كيرة والجن (2022)

بداية المقاومة

تدور أحداث فيلم كيرة والجن في مصر خلال عام 1919، في فترة مشتعلة من التاريخ المصري الحديث حين كانت البلاد ترزح تحت الاحتلال البريطاني.
من اللحظات الأولى يضعنا الفيلم في قلب القاهرة التي يغمرها الغضب الشعبي، والاحتجاجات التي تعم الشوارع ضد المحتل.
وسط هذا المشهد المليء بالدخان والهتافات والرصاص، يظهر الطبيب الشاب “كريم كيرة” (كريم عبد العزيز)، المثقف الهادئ الذي يعمل في المستشفى العام ويشهد يوميًا فظائع الاحتلال على المرضى والجرحى.

كيرة يمثل فئة الطبقة الوسطى المتعلمة، تلك التي كانت تؤمن أن الحرية يمكن أن تُنتزع بالعلم والعقل قبل السلاح، لكنه مع تصاعد القمع يدرك أن الكلمات وحدها لا تكفي.
على الجانب الآخر، يظهر “الجن” (أحمد عز)، الشاب الشعبي الذي يعمل في الحارة ويعيش على هامش المجتمع، لكنه يحمل في داخله نار الثورة والغضب المكبوت ضد الاحتلال.
يعيش الجن في أجواء الفقر والقهر، ويجد نفسه منجذبًا إلى فكرة المقاومة المسلحة كطريق وحيد لاستعادة الكرامة.

الصدفة تجمع بين العالمين المختلفين — كيرة المتعلم الهادئ والجن المتمرد الشعبي — في لحظة مصيرية بعد حادث إطلاق نار في أحد المظاهرات.
من هنا تبدأ العلاقة بينهما، علاقة مبنية على الشك في البداية، ثم تتحول إلى تحالف مصيري سيغير مجرى حياتهما للأبد.

ولادة التحالف

بعد حادث المظاهرة، يساعد كيرة أحد المصابين سريًا في منزله، دون أن يعلم أن هذا المصاب هو أحد رجال المقاومة الذين يعمل معهم الجن.
حين يكتشف الجن الأمر، يقرر مراقبة كيرة معتقدًا أنه جاسوس، لكن الموقف ينقلب حين يرى الطبيب يخاطر بحياته لإنقاذ طفل من قبضة أحد الضباط البريطانيين.
في تلك اللحظة يتبدد الشك، ويبدأ الاحترام المتبادل بين الرجلين.

تدريجيًا، يجد كيرة نفسه منجذبًا لفكرة العمل السري ضد الاحتلال.
لم يعد قادرًا على الاكتفاء بدوره كطبيب يعالج الضحايا، بل يريد أن يكون سببًا في توقف نزيف الدم.
الجن، رغم تهوره وسخريته، يعجب بذكاء كيرة وتحليله الدقيق للأحداث.
وهكذا تتشكل أول نواة لتحالف جديد، بين رجل العلم ورجل الشارع.

فيلم كيرة والجن يقدم في هذا الجزء مزيجًا رائعًا من الدراما الإنسانية والتاريخ السياسي، حيث نرى شخصيتين مختلفتين تمامًا يجمعهما هدف واحد.
كيرة يمدّ الجن بالخطط والمنطق، بينما يمدّ الجن كيرة بالشجاعة والجرأة.
ومع انضمام شخصيات أخرى مثل “دولت فهمي” (هند صبري) — المرأة الوطنية الشجاعة التي تقود خلايا نسائية ضد الاحتلال — تتسع دائرة المقاومة السرية وتتحول إلى شبكة منظمة تضرب الاحتلال من الداخل.

تصاعد المقاومة

مع مرور الوقت، تتطور أنشطة المقاومة في فيلم كيرة والجن، ويصبح الثنائي كيرة والجن جزءًا أساسيًا من الخلايا السرية التي تخطط لعمليات نوعية ضد الاحتلال البريطاني.
هذه العمليات تتنوع بين تهريب الأسلحة، وتنفيذ اغتيالات محددة لضباط الاحتلال، وجمع المعلومات من داخل مقراتهم.

مشاهد العمليات في الفيلم تنبض بالإثارة والذكاء، إذ يستخدم كيرة علمه في الكيمياء والطب لصناعة قنابل بسيطة أو أدوات تمويه، بينما يعتمد الجن على شجاعته ومهاراته في القتال والتخفي.
المشاهد تتنقل بين الشوارع الضيقة للحارات الشعبية، والمنازل الفاخرة التي تجتمع فيها الطبقة الأرستقراطية، لتُظهر التناقض الطبقي الذي كانت تعيشه مصر آنذاك.
رغم هذا التناقض، ينجح الفريق في توحيد الجميع تحت راية واحدة: حب الوطن.

أحد أبرز مشاهد الجزء هو عملية اغتيال ضابط بريطاني مسؤول عن مجزرة ضد المتظاهرين.
تنفذ العملية بدقة، لكن في أعقابها تزداد مطاردة قوات الاحتلال للمقاومين.
تتساقط بعض الخلايا، ويتم القبض على العديد من المناضلين، بينما تتضاعف المخاطر المحيطة بكيرة والجن.
ومع كل خطر جديد، تتعمق العلاقة بين الرجلين — كيرة بعقله المتزن، والجن بشجاعته الفوضوية — لتتحول من شراكة في النضال إلى صداقة حقيقية مبنية على التضحية والاحترام.

الخيانة الكبرى

في منتصف أحداث فيلم كيرة والجن، تتعرض المقاومة لضربة قاسية بعد تسرب معلومات عن أحد الاجتماعات السرية إلى القوات البريطانية.
المداهمة التي تلي ذلك تكون دامية، حيث يسقط العديد من المقاومين بين قتيل ومعتقل، وتُعتقل دولت فهمي بعد مقاومة شرسة.
المشهد يعكس قوة المرأة المصرية وصلابتها، إذ ترفض الاعتراف بأي معلومة رغم التعذيب، لتصبح رمزًا للشجاعة في زمن الاحتلال.

يبدأ كيرة في التحقيق بنفسه ليكتشف مصدر الخيانة.
الصدمة الكبرى تأتي عندما يتضح أن الخائن لم يكن من الغرباء، بل من داخل الصفوف نفسها — أحد الأعضاء الذي باع الوطن مقابل المال والأمان الشخصي.
هذا الاكتشاف يشعل الغضب في نفس كيرة والجن، ويحوّل هدفهما من مقاومة الاحتلال فحسب إلى تطهير صفوف المقاومة نفسها.

في واحدة من أقوى المشاهد الدرامية، يواجه كيرة الخائن وجهاً لوجه.
يرفض قتله انتقامًا، بل يتركه ليواجه مصيره على يد الاحتلال نفسه.
هذا المشهد يعكس التباين بين شخصية كيرة الهادئة التي تؤمن بالمبادئ، والجن الناري الذي يرى أن الرحمة في زمن الحرب ضعف.
الصراع بينهما يبلغ ذروته، لكن رغم الاختلاف، يدرك الاثنان أن هدفهما واحد وأن الخيانة لا تُغتفر في معركة الوطن.

الذروة والمطاردة الأخيرة

مع تصاعد الغضب بعد الخيانة، يقرر كيرة والجن تنفيذ عملية جريئة تُعد الأخطر منذ بداية رحلتهما.
هدفها اغتيال أحد كبار الضباط البريطانيين المسؤولين عن التعذيب والاعتقالات الجماعية بحق المصريين.
الخطة تعتمد على التسلل إلى مقر محصن في قلب القاهرة، حيث يقيم الضابط احتفالًا رسميًا بحضور عدد من الشخصيات المهمة.

فيلم كيرة والجن يقدّم في هذا الجزء ذروة سينمائية بامتياز؛
مشاهد الأكشن مصنوعة بعناية، والإضاءة والموسيقى التصويرية تضيف توترًا واقعيًا يجعل المشاهد يعيش تفاصيل اللحظة.
أثناء تنفيذ العملية، تتغير الأحداث بسرعة غير متوقعة — إذ يُصاب أحد أعضاء الفريق، وتنكشف هوية كيرة للعدو.
في خضم الفوضى، ينجح الجن في إنقاذ كيرة من الموت المحقق، لكن هذا الإنقاذ يكلفه الكثير.

المشهد الأبرز في هذا الجزء هو المواجهة المباشرة بين الجن وأحد الضباط البريطانيين داخل أروقة القصر.
يتبادل الطرفان القتال بالأيدي وسط الدخان والنيران، حتى يتمكن الجن من إنهاء المعركة لصالحه، لكنه يخرج مصابًا إصابات خطيرة.
في الوقت نفسه، يتمكن كيرة من تنفيذ الجزء الأهم من العملية عبر تفجير رمزي يوجه رسالة قوية للاحتلال مفادها أن الشعب المصري لا يُقهر.

النهاية والتضحية

بعد العملية، تتحول القاهرة إلى ساحة مطاردة شرسة.
قوات الاحتلال تملأ الشوارع بحثًا عن منفذي الهجوم.
كيرة يختبئ مع الجن الجريح في أحد المخازن القديمة، بينما يسمعان صفارات الإنذار في الخارج.
في هذه اللحظة الصامتة، يدور بينهما حوار مؤثر يُعد من أجمل مشاهد فيلم كيرة والجن.
الجن، بوجهه المتعب ودمائه، يبتسم ويقول لكيرة إن الثورة تحتاج دائمًا إلى من يدفع الثمن، وإنه مستعد لأن يكون هذا الثمن.

تنهمر الدموع من عيني كيرة بينما يحاول إسعاف صديقه، لكن الجن يرفض النجاة ويصر أن يكمل كيرة الطريق بدونه.
بعد وداع مؤلم، يستسلم الجن لجراحه ويفارق الحياة، تاركًا أثرًا خالدًا في قلب كيرة وفي ذاكرة الوطن.
كيرة يهرب بمساعدة بعض أفراد المقاومة ويواصل النضال في الخفاء، لتستمر الحركة الثورية التي بدأها مع رفيقه.

المشهد الختامي في فيلم كيرة والجن يصوّر جنازة رمزية تجمع الشعب المصري من كل الفئات، يرفعون الأعلام ويهتفون للحرية.
تظهر لقطة أخيرة لكيرة وهو يسير وسط الجموع، عيناه تحملان الحزن والفخر في الوقت نفسه، كرمز لاستمرار الكفاح.

النهاية تختصر روح الفيلم: أن الوطن لا يُبنى إلا بالتضحية، وأن الشجاعة الحقيقية ليست في رفع السلاح فحسب، بل في الإيمان بالحرية رغم الألم.
بهذا الختام، يثبت فيلم كيرة والجن مكانته كواحد من أهم الأفلام التاريخية في السينما المصرية الحديثة، جامعًا بين الدراما الوطنية والإخراج المذهل والتمثيل المتقن.